( تونس في ظل الارهاب - دراسة في القانون الدولي ) بقلم الاستاذ الدكتور حكمت شبر استاذ القانون الدولي العام في بغداد والمستنصرية.
تونس في ظل الارهاب - دراسة في القانون الدولي |
أن المصير التأريخي لدول المغرب العربي وبشكل خاص المغرب وتونس وكانت المغرب سابقاً تسمى مراكش، كانت الدولتان تملكان سمات مشتركة فيما يتعلق بالتراث القديم، ومن ثم خضوعها للأستعمار المباشر من قبل فرنسة.
أستطاعت فرنسة عام 1912 أن تحتل بقوة السلاح الأراضي المغربية، وأستطاعت أن تفرض على شريف مراكش في نفس العام في (فاس) معاهدة أستعمارية لمصلحتها.
جاء عقد معاهدة 1912 تتويجاً لسياسة فرنسة الأستعمارية التي أتبعتها في شمال افريقيا.
وقد سبق عقد المعاهدة المذكورة فترة من الزمن سميت فترة (تسوية العلاقات) بين فرنسة مع بقية الدول الأستعمارية.
يعتبر التوقيع على المعاهدة المذكورة ثمرة لجهود عشر سنوات من المفاوضات السرية، حيث أستطاعت الحصول على تنازلات كل من أنكلترا، ألمانيا وأيطاليا في المغرب.
كانت التناقضات بين الدول الأستعمارية قد بلغت حداً كبيراً في بداية القرن العشرين، وذلك لأن جميع الأراضي (غير المملوكة لأحد) كانت قد قسمت بموجب مؤتمر برلين عام1885م, ولذلك فقد تأخرت سيطرة فرنسا على المغرب فترة طويلة.
أستطاعت فرنسا نتيجة أطلاق يد أيطاليا في سيطرتها على ليبيا، أن تحظى بموافقة الأخيرة على أستعمارها للمغرب واعترفت فرنسا لبريطانيا العظمى بأدعاءاتها ونفوذها في مصر مقابل أعتراف بريطانيا لها بسيطرتها على المغرب وقد ثبتت أتفاقية 1906م, مصالح فرنسا في المغرب.
أستطاعت فرنسا عام 1911م, أن توقع أتفاقية مع ألمانيا منحت الأخيرة بموجبها السيطرة التامة لفرنسا على المغرب. حيث قامت بعدة تنازلات عن مصالحها في الكاميرون والكونغو وغينيا لصالح فرنسا، لكن بالرغم من التنازلات الألمانية بموجب المعاهدة المذكورة، إلا أنها لم تتخلى لفترة طويلة عن جميع حقوقها وأمتيازاتها في المغرب، حتى هزيمتها بالحرب العالمية الأولى إذ قضت أتفاقيات فرنسا مع الأطراف الأخرى على أستبعاد ألمانيا ومنعها بأي صورة من الصور أن تستخدم المعاهدات السرية في المستقبل، ولا يحق لها التدخل في المفاوضات التي تجري بين فرنسه والدول الأخرى والمتعلقة بالمغرب. وكما خضعت المغرب لأستعمار فرنسه، تم أخضاع تونس بنفس الأسلوب، الذي اتبعته فرنسا مع المغرب.
لقد تقرر مصير تونس في مؤتمر برلين لعام 1878م، وذلك نتيجة للمساومة بين فرنسه وأنكلترا وألمانيا. فقد وعدت الحكومة الأنجليزية أن لا تعيق فرنسه من أستعمار تونس. وهكذا نجد كيف كانت قواعد القانون الدولي التقليدي تجيز لدول العالم (المتحضر) أقتسام البلدان الضعيفة بينها، دون الرجوع إلى شعوب تلك البلدان.
وفي الثاني عشر من مايس 1881م, بعد أحتلال فرنسة لتونس بالقوة أضطر رأس الدولة التونسية المسمى (الباي) من التوقيع على ما يسمى بمعاهدة الضمان (معاهدة باردو) حيث تم أخضاع تونس بموجب تلك المعاهدة وبالرغم من عدم النص في المعاهدة على نظام الحماية الأستعمارية، لكن تحليل مواد المعاهدة يوصلنا إلى أن تونس فقدت عملياً أستقلالها كدولة ذات سيادة وأصبحت لفرنسة بشكل كامل. وقد جاء في نصوص المعاهدة أن الجيوش الفرنسية تستطيع ان تحتل أي جزء من الأراضي التونسية أنطلاقاً من الضرورات التي ترتأيها الحكومة الفرنسية لأجل تأمين الأستقرار الداخلي وحماية الحدود الشاطئية (م- 2) من المعاهدة.
كما أن الأحتلال لم يكن محدداً بوقت معين للرحيل عن تونس إلا أنها تركت الأدارة المحلية للسلطة التونسية، ولكن فرنسة بقيت تدير بشكل مباشر تونس لمدة (75) عاماً.
حرمت معاهدة 1881م, تونس عملياً من ممارسة علاقاتها الخارجية بشكل مستقل، وهذا العامل بحد ذاته يفقد الدولة أهم مظهر من مظاهر السيادة، وكان (باي) تونس مضطراً للتعهد بعدم عقد أية معاهدة ذات طابع دولي دون أن يُعلم مسبقاً الحكومة الفرنسية مناشداً أياه الموافقة على ذلك، (م- 6) من المعاهدة وأعلنت فرنسة وفقاً لنص (م: 4) بأنها الدولة الضامنة لتطبيق الأتفاقيات المعقودة بين تونس من جهة والدول الأوربية من الجهة الأخرى، كما أن ممثلي فرنسة الدبلوماسيين وقناصلها كانوا مخولون بالمحافظة على مصالح تونس والمواطنين التونسيين في الدول الأخرى.
أما الخطوة التالية التي خطتها فرنسة لترسيخ نفوذها في تونس قيامها بعقد أتفاقية (المرسى) في الثامن من تموز 1883م، وقد تم وفقاً لهذه الأتفاقية فرض نظام الحماية على تونس بشكل قانوني، حيث ألتزم (باي) تونس بأن يقوم فقط بالأصلاحات الأدرايةةة والمالية، التي تراها الحكومة الفرنسية مفيدة.
كما أن (الباي) مُنع من عقد القروض مع الدول الأجنبية بدون الحصول على تفويض من الحكومة الفرنسية، كما حصلت فرنسة على صلاحيات واسعة في الحقل الداخلي وفي مقدمة ذلك تنظيم أمور القضاء والأدارة والمالية مما حرم تونس من ممارسة الحقوق التي كانت تتمتع بها في تنظيم وأدارة شؤونها الداخلية.
أن معاهدة 1881م, وأتفاقية 1883م, قد حولتا تونس إلى مستعمرة فرنسية بالرغم من أن تونس لم تكن سوى دولة خاضعة للحماية. وحافظ (باي) على عرشه وكانت له إدارة البلاد من الناحية الشكلية، إلا أنه كان ممنوعاً من ممارسة أي عمل سيادي دون موافقة المقيم الفرنسي العام.
أن فرض نظام الحماية على تونس ألغى الدستور التونسي الصادر عام 1861م، والذي كان معمولاً به لتنظيم الحياة التشريعية والسياسية في البلاد قبل دخول الجيوش الفرنسية وأخضاع تونس لنظام الحماية.
كان الحاكم لتونس ليس رأس الدولة التونسي (الباي) بل المقيم الفرنسي العام، حيث كان يقوم بالسيطرة على مظاهر الحياة الأدارية والقانونية وبضمنها مجلس الوزراء المؤلف من أحد عشر وزيراً فرنسياً بثلاث وزراء تونسيين.
لم يقف الشعب التونسي مكتوف اليدين إزاء سلبه حريته واستقلاله، فقد نهض معلناً الثورة عام 1881م, في المناطق المركزية والجنوبية من تونس، وجهزت فرنسة للقضاء على تلك الثورة حملة مجهزة بأحدث أنواع الأسلحة الفتاكة ضد شعب أعزل يطالب بأستقلاله. وكان الشعب التونسي يقوم بأنتفاضاته المسلحة بين حين وآخر محاولاً أسترداد حريته وأستقلاله.
نهض الشعب التونسي مع شعوب العالم بعد القضاء على النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، وأخذ يطالب بالحصول على أستقلاله بعد سنين من هيمنة الأستعمار الفرنسي على بلده.
عرضت القضية التونسية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بدءاً من عام 1946م, حتى حصول تونس على الأستقلال عام 1956م. وكان يقود نضال الشعب التونسي (الحبيب بورقيبة) إلا أن فرنسا كانت ترفض مناقشة القضية أمام الأمم المتحدة بحجة الفقرة السابعة من المادة الثانية (ف7- م2) من ميثاق الأمم المتحدة الذي لا يسمح لدول العالم بالتدخل في الشؤون الداخلية أحتراماً لسيادة الدولة. ولكن حجة فرنسة كانت تُرد بعد النهوض الكبير لشعوب العالم وبروز كتلة عدم الأنحياز، التي قادت نضال الشعوب المُستَعرة حتى حصوله على الأستقلال وتُرفض من قبل أعضاء الأمم المتحدة أنطلاقاً من مبدأ حق تقرير المصير المثبت في الميثاق والذي يعطي للشعوب المستعمرة في الحصول على أستقلالها.
واستقلت تونس، وحققت الحلم القومي في أقامة دولة وطنية موفورة السيادة، لها علم ومجلس أمة وحكومة وطنية، وأصبحت عضواً في الأمم المتحدة. ولكن ماذا بعد هذا الأستقلال؟ وماذا تحقق للشعب التونسي الذي كافح طويلاً وقدم آلاف الضحايا في ثوراته وأنتفاضاته، وفي سجون الأستعمار.
هل يا ترى توفر العيش السليم للشعب، وهل أستطاع التونسي أن يضمن لنفسه بعض حقوق الأنسان، في الحرية والتعبير عن الرأي والنشر وضمان العيش الكريم في سكن لائق وحكومة ديمقراطية تلبي مطامح الشعب.. الخ من حقوق.
لا أنكر وأنا أتحدث عن تونس عن دور الزعيم التونسي (الحبيب بورقيبة) في قيادة الدولة التونسية، وما حققه من خلال أعلانه دولة علمانية، ونادى بفصل الدين عن السياسسة، وأكد على المساواة بين المرأة والرجل في الميراث وبقية الأمور الشرعية ومنع الزواج بأكثر من أمرأة واحدة، ولا زالت هذه القواعد القانونية المثبتة في دستور (تونس بورقيبة) أثار وحرّض الأسلاميون للأستنكار والتظاهر والوقوف في وجه هذا التيار التقدمي الذي لم يراعي فتاوى رجال الدين، وخالف ماجاء في القرأن والسنة. إلا أن بورقيبة لم ينحني أمام الأسلاميون، بل أستمر في تطبيق سياسته المدنية، وقوانينه المستمدة من التشريعات الفرنسية والغربية ضارباً عرض الحائط ما دعا إليه رجال الدين المنادين بتطبيق الشريعة الأسلامية.
لكن أقول بالرغم من موقف هذا القائد الكبير الذي دعى يوماً وهو يزور ضحايا اللاجئين في فلسطين، وقد أطلع على أحوالهم المزرية أن دعى عبد الناصر والعرب إلى الجلوس إلى مائدة المفاوضات مع أسرائيل لحل القضية الفلسطينية، فما كان من العرب إلا أعلنوه خائناً خارجاً على صفوف الأمة العربية.
نهج بورقيبة وحزبه الأستقلال نهجاً لا يتناسب مع الدولة العلمانية التي تطبق الديمقراطية الغربية فقد شجع أصحاب رؤوس الأموال الوطنيون مع الشركات الفرنسية والأجنبية لأستغلال الثروات التونسية والسيطرة على الأقتصاد التونسي. وكان في ذلك يطبق ما يريده الغرب الأستعماري، وهذا هو منهج جميع قادة الدول التي أستقلت من ربقة الأستعمار.
تكونت في تونس طبقة برجوازية كومبرادورية متعاونة مع الغرب مستحوذة على المشاريع المختلفة، وقد سيطرت تماماً على الأقتصاد التونسي، فتكونت طبقة مستغلة أبشع من الأستعمار الفرنسي، وبقي الشعب مسحوقاً لا يستطيع أن يجد ما يسد الرمق.
كان الشعب التونسي ينهض بين أونة وأخرى في مظاهرات صاخبة مطالباً بحقوقه، إلا أن بورقيبة تحول إلى دكتاتور بعيداً عن رغبات شعبه. فكانت المظاهرات تقمع والوطنيون واليساريون يوضعون في السجون وتراكمت مع الزمن مشاعر التمرد والثورة في نفوس الجماهير التونسية. وأستغل (بن علي) تلك الأحوال خصوصاً في أيام (بورقيبة) الأخيرة التي ضعف بها، وكانت فئة من الفاسدين والمفسدين تحيط به.
فقام (بن علي) باْنقلاب عسكري مفوتاً فرصة القيام بثورة شعبية تطيح بنظام بورقيبة الذي بدأ تقدمياً ووطنياً وتحول إلى نظام فرد ديكتاتوري ولم يدم نظام (بن علي) طويلاً حتى ثار الشعب التونسي ثورته العارمة بعد أنتحار (محمد بو عزيزي) أحتجاجاً على الجوع والظلم الذي يحيط الشعب التونسي.
كانت ثورة الربيع العربي التونسي مصدر فخر لجيمع العرب، جاءت الثورة سلمية بدون أراقة دماء وبدون تدخل من قوة اجنبية كما حصل في ليبيا وسورية والعراق، وهذا مصدر قوة وديمومة للحكم الذي جاء بعد الثورة. كان لهذه الثورة صدى كبير في البلدان العربية، كما سنرى فيما يأتي من هذه الدراسة.
كانت تونس الناهظة توقد مشعل الحرية والديمقراطية في الوطن العربي الكبير، ولكن مشعلي الفتن وحملة الفكر التكفيري من الوهابيين الذي يعادي كل ما يفيد الشعب ويساعده في حياته الجديدة، حيث بدأت قوى الأرهاب (دواعش والقاعدة) من تجميع صفوفهم والهجوم على مكتسبات الثورة التونسية ،
وقد قاموا بأعمال تخريبية للسياحة التونسية، التي هي مصدر مهم في الأقتصاد التونسي، حينما هاجموا السواح على شاطئ البحر وقتلوا منهم العشرات، مما لعب دوراً كبيراً في تردي حالة السياحة، وأثر ذلك على الأقتصاد التونسي وقام البعض من هؤلاء القتلة بالهجوم على مدينة تونسية حدودية بغية أقامة أمارة أسلامية إلا أن الحكومة والأمن التونسي تصدى لهم بقوة وأجهضوا تلك المحاولة البائسة.
ولازالت تونس وسوف تبقى تتعرض لهجمات هؤلاء المارقين أدعياء الدين يحاولون القدوم من ليبيا المقّطعة بين ميليشيات وعصابات التطرف الأسلامي يحاول قادة هؤلاء الخارجين على الدين والقانون الهجوم على الدولة التونسية وتخريب أقتصادها ومحاولة أسقاط النظام فيها.
لكن الحكومة والشعب التونسي المؤمن بفصل الدولة عن الدين منذ عهد (بورقيبة) لم ولن يمنحهم الفرصة للقيام بهذه المحاولة القاتلة. ونرى أثر ذلك على حزب النهضة الأسلامي صاحب النفوذ الكبير قام في مؤتمره الأخير بفصل الدين عن الأسلام السياسي، وتكوين حزب سياسي يؤمن بالديمقراطية والأنتقال السلمي في الحكم وهكذا سوف تستمر تونس في نهجها الديمقراطي الجديد.
لم تبق بقعة في العالم العربي لم يكبلها الأستعمار بمختلف أنواع التبعية، بدءاً بالأستعمار المباشر، الحماية، الأنتداب، الوصاية، وفي النهاية جاء الشكل الجديد بفرض المعاهدات غير المشروعة على العرب بمختلف دولهم عن طريق الأتفاقيات الخاصة بالقواعد العسكرية، وتقديم المساعدات العسكرية والمساعدات الأقتصادية والفنية والثقافية.