(التوازن بين السلطة والحرية واثره على حقوق الانسان) بقلم الاستاذ المساعد الدكتور: علي سعد عمران. رئيس قسم القانون في معهد العلمين للدراسات العليا.
لطالما كان موضوع وجود السلطة وضرورتها من المسائل الهامة في المجتمعات البشرية , ولاسيما تلك السلطة التي توجه اوامر ونواهي لأفراد المجتمع , والتي تعمل على تنظيم شؤونهم الحياتية , ونقصد بها السلطة السياسية في الدولة , والتي هي من ضرورات الحياة في أية دولة.
وفي المقابل لهذه السلطة نجد الحقوق والحريات التي يتمتع بها الأفراد المتواجدين على أرض الدولة سواء أكانوا من مواطنيها أم من الاجانب , ولذا اضحى من الضروري ايجاد التوازن بين هذه السلطة بما تملكه من وسائل وادوات قانونية (التشريع) ومادية (القوة البوليسية والعسكرية) , والحقوق والحريات الفردية والعامة والتي قد تتغول عليها السلطة السياسية عند تنظيم أحوال المجتمع عن طريق مايعرف بالضبط الاداري وتحقيق المصلحة العامة للدولة .
ولذا طرح السؤال الاتي : هل السلطة في حالة صراع مع الحرية ؟ أم انهما يحتاجان الى التوازن فيما بينهما ؟
لقد كانت الاجابة عن التساؤل المتقدم متفاوتة في المجتمع الانساني الى درجة كبيرة , إذ ساد ويسود العالم اتجاهان متناقضان , الاول ديمقراطي يتجه الى احداث التوازن بين السلطة والحرية , والثاني ديكتاتوري استبدادي يذهب إلى إعلاء كفة السلطة السياسية في مواجهة حريات الافراد وحقوقهم , وكان من نتائج الاتجاه الثاني ان تقلصت الى حد كبير مساحة الحقوق والحريات , لذا انقدحت الافكار الفلسفية والنظريات الجدلية التي تنادي بضرورة حماية هذه الحقوق والحريات وتقييد سلطة الدولة , وظهرت لأجل ذلك النظريات العديدة ومنها (القانون الطبيعي) التي أكدت ان للإنسان حقوقا لصيقة به منذ ان جرت في عروقه الحياة , لايمكن التخلي عنها واي افتئات عليها يكون غير مشروع مستحقا للمقاومة, لأنها هبة من الله تعالى أو هي هبة من الطبيعة للإنسان –وذلك بحسب الاختلاف العقائدي لمن تبنى هذه النظرية-.
لذا انتهى الفكر القانوني السليم الى ضرورة ان يعهد الى تنظيم المعادلة بين السلطة والحرية الى دستور الدولة ذاته –وذلك بعد ان ظهرت فكرة الدسترة في القانون الوضعي- الذي يتولى بدوره تنظيم السلطة السياسية في الدولة من حيث تكوينها وبيان اختصاصاتها , وينظم في الوقت ذاته الحقوق والحريات العامة والفردية التي يجب ان يتمتع بها المواطن والاجنبي في الدولة , وبالتالي يكون الدستور هو اداة التوازن بين السلطة والحرية وبذلك تتحقق الفلسفة الدستورية . وقد ظهرت اثار ذلك على هيكلية الدستور نفسه ولاسيما الدساتير التي كتبت في منتصف القرن العشرين والقرن الواحد وعشرين , اذ نجد ان المشرع الدستوري في دول العالم قد دأب على ذكر الحقوق والحريات ابتداء في الوثيقة الدستورية ثم يعالج موضوع السلطة السياسية (السلطات الحاكمة في الدولة) , ويورد القيود التي ترد عليها حفاظا على نظام الدولة مع بيان الضمانات الكفيلة بحماية الحقوق والحريات .
ولعل هذه الفلسفة الدستورية سعى اليها المشرع الدستوري العراقي في عام 2005 عند وضع الدستور فأبتدئ بباب الحقوق والحريات ثم انتقل بعد ذلك الى بيان السلطات الاتحادية في المادة (47) ومابعدها من الدستور, لاسيما بعد ان تجرع المجتمع غصة الديكتاتورية في الانظمة السياسية التي توالت على حكمه , فقد صودرت واغتصبت كثيرا من حقوق الانسان وحرياته السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية . لذا نجد ان الدستور الحالي قد ذكر بشيء من التفصيل والعناية الحقوق والحريات ابتداءً من الديباجة ثم جاءت المادة الاولى من الدستور في الباب الاول الموسوم "بالمبادئ الاساسية" وقضت بان "جمهورية العراق ... نظام الحكم فيها...ديمقراطي" ولايجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية ولا مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في الدستور بحسب المادة الثانية من الدستور , وقد أشارت المادة ذاتها وبوضوح الى ان الاسلام مصدر اساس للتشريع ولايجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الاسلام . ومن ماسبق تتضح الخطة الدستورية للمشرع في احداث جانب من التوازن بين سلطة الدولة في التشريع وسن القانون وبين حماية الحقوق والحريات . ثم اردف المشرع من بعد ذلك في الدستور ايراد الباب الثاني بفصليه ليعنونه بالحقوق والحريات...
ففي الفصل الاول ذكر الحقوق والتي قسمها على حقوق مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية , وفقا للتقسيم الفقهي الحديث . أما الفصل الثاني فقد أورد فيه الحريات المتعددة . على ان تكون ممارسة هذه الحقوق والحريات في حدود النظام العام (الامن العام والصحة العامة والسكينة العامةوالآداب العامة) وفي حدود ماتقضي به القوانين والتشريعات النافذة في العراق , على انه لايجوز ان يكون تنظيم أي حق أو حرية أو تقييدها فيه انتقاص أو مساس بأصل وجوهر الحق أو الحرية, وهو ماصرحت به المادة (46) من الدستور .
ذلك ان اطلاق الحقوق والحريات دون ضابط قانوني مميز يؤدي الى تحول المجتمع الى فوضى فتسود فيه شريعة الغاب , ولذا يأتي هنا دور كل من القانون والادارة (الحكومة الاتحادية والمحلية على حد سواء) في تحقيق التوازن المنشود بين السلطة والحرية فلا يمكن ان يضحى بسلطة الدولة ونظامها الاجتماعي بحجة المدافعة عن حقوق الانسان ولايضحى بهذه الحقوق والحريات بحجة حماية النظام في الدولة . فيكون على مشرعي القانون ورجال الادارة عند قيامهم بواجباتهم الالتزام بالضوابط الدستورية والقانونية المذكورة .
أما الضمانات التي نظمها المشرع الدستوري لحماية وضمان عدم تجاوز السلطة على حقوق الانسان فهي عديدة , ويمكن لنا القول بان هذه الضمانات اذا اريد لها الخروج عن الاطار النظري البحت فإنها ستتمثل بضمانتين اراهما مهمتين : الاولى الاعلاموماقد يؤديه من دور في حماية الحقوق والحريات على ان يكون اعلاما مهنيا نزيها مؤديا واجباته المهنية بصورة دقيقة غير منحاز الا الى الحقيقة , وذلك من خلال تسليطه الضوء على انتهاكات حقوق الانسان من قبل السلطات الحاكمة , ولذا خص الدستور ذكر الاعلام في المادة (38) بالنص على ان "تكفل الدولة .... ثانيا: حرية الصحافة ... والاعلام والنشر"فالإعلام بوسائله المسموعة والمقروءة والمرئية يلعب دورا في تنبيه الرأي العام الى ان هناك خلل في التوازن المبحوث عنه .
وأما الضمانة الثانية فتتمثل برقابة القضاء وهي من اهم واجع الضمانات في هذا المجال ذلك ان القضاء يعد حصن الحريات العامة -كما وصف من قبل بعض الفقهاء- غير ان القضاء كقاعدة عامة يعد ساكن غير متحرك , بمعنى ان على صاحب المصلحة المهتضم حقه أو حريته ان يتجه الى القضاء ليرفع دعواه ويبين فيها مظلمته , ولأهمية استقلال القضاء وضرورة حياديته في عمله فقد نص عليه الدستور في باب الحقوق والحريات بوصفه واحدا من الحقوق المدنية التي نص عليها دستورنا في المادة (19/أولا) بالقول ان " القضاء مستقل لاسلطان عليه لغير القانون".عليه نجد ان إعداد القاضي بصورة علمية مهنية رصينة يعد واحداً من أهم متطلبات الحكم العادل الرشيد في الدولة .
وختاما لابد لنا من التنبيه الى :
1. السلطة ليست امتيازا لأصحابها بل هي مسؤولية تقع على اصحابها .
2. الحقوق والحريات ليست نصوص تذكر في الدساتير والقوانين , بل هي تربية اجتماعية .
3. تحقيق التوازن بين السلطة والحرية ولو بصورة مقبولة وليست مثالية , يؤدي الى نتائج هامة على صعيد نظام الدولة لعل من أهمها اشاعة روح المواطنة بين افراد المجتمع , فالمواطنة هي ليست حق الحصول على الجنسية بل هي الآمال والالام التي يشعر بها المواطن تجاه بلده , فيجد بالعمل على تحقيق الآمال والقضاء على الالام التي تحيط ببلده وابنائه عن طريق التزام العمل المفيد والصالح لبلده .