الانعدام..هو مصير الحكم الصادر تأسيساً على تبليغ وهمي للمدعى عليه
الانعدام..هو مصير الحكم الصادر تأسيساً على تبليغ وهمي للمدعى عليه |
تعدَّ ظاهرة لجوء شخص سيء النيّة لرفع دعوى ووضع عنوان وهمي لا يقيم فيه خصمه المدعى عليه! ثم التواطؤ مع محضر أو شرطي فاسد لشرح مذكرة التبليغ بطريقة يضطر فيها القاضي للسماح بتبليغه بالصحف، وبالتالي استصدار حكم قضائي بدون علم الخصم، من أسوأ الظواهر السلبية المنتشرة في المحاكم.
من الناحية القانونية يمكن لمن فوجئ بصدور حكم ضده بهذه الطريقة معالجته بإحدى طريقتين:
إما دعوى "إعادة المحاكمة" بسبب الغش المرتكب من الخصم،
أو دعوى "انعدام حكم" بسبب عدم انعقاد الخصومة.
ويعتبر سلوك دعوى إعادة المحاكمة طريقاً محفوفاً بمخاطر عدم قبولها شكلاً، والتي لا يتساهل فيها القانون نهائياً، لأن إعادة المحاكمة حسب المادة 243 أصول محاكمات عبارة عن طعن غير عادي بالحكم يجب تقديمه خلال مدة 15 يوم تبدأ من ظهور الغش،
وحيث أن المتضرر من الحكم (المغشوش) لا يعلم به عادة إلا بعد فترة طويلة نسبياً، ما يجعل مدة الـ 15 يوماً سيفاً مسلطاً فوق رأسه يهدد بالإطاحة بدعوى الإعادة برمتها!!
وبالتالي فإن اللجوء لدعوى الانعدام يعتبر طريقاً آمناً ومفضلاً لمحامين أكثر من دعوى إعادة المحاكمة في مثل هذه الحالة، لا سيما وأن دعوى الانعدام مستقرة في الفقه والاجتهاد.
ولكن ماذا لو أقيمت دعوى الانعدام، وتمسك الخصم بإعادة المحاكمة ومضي المدة القانونية، فما هو موقف القضاء في مثل هذه الحالة؟؟
هذا ما سنراه في القضية التالية:
رفع شخص دعوى انعدام حكم صدر ضده بناء على تبليغ وهمي لغير مكان رفع شخص دعوى انعدام حكم صدر ضده بناء على تبليغ وهمي جرى على موطن غير مكان قامته الفعلي.
قبلت محكمة الاستئناف الدعوى وقضت بانعدام الحكم المشكو منه، فطعن الخاسر بالحكم وتمسك باجتهاد للهيئة العامة برقم 504 للعام 2010 يعتبر أن الغش في التبليغ يعتبر من حالات إعادة المحاكمة.
فتصدت الغرفة العقارية في محكمة النقض لهذا الموضوع بكل دقة واقتدار وتوسع، واستفاضت في التحليل والتمييز بين الانعدام وإعادة المحاكمة، وبعدما استعرضت طيف من الاجتهادات والآراء الفقهية التي تناولت جوهر الموضوع، توصلت لرأي مفاده أنه:
((لا يوجد تعارض بين دعوى إعادة المحاكمة ودعوى الانعدام))
وخلصت لجملة من المبادئ القيّمة تصلح أن تكون نبراساً في مثل هذه الحالات حيث قالت:
((إن قيام حالة من حالات إعادة المحاكمة على فرضه في هذه الدعوى، لا يحجب عن المدعي حقه في سلوك طريق دعوى الانعدام، طالما أن حالة الانعدام متوفرة في الحكم))
((إن سلوك طريق إعادة المحاكمة ليس ملزماً للمدعي باعتباره ليس من طرق الطعن العادية، وإنما هو طعن غير عادي، سلوكه غير ملزم للمدعي الذي وجد أن الانعدام متوفر في الدعوى، فسلك هذا الطريق الذي رسمه له القانون والاجتهاد وخيره بين أن يتقدم به كدفع أو كدعوى أمام المحكمة مصدرة القرار المعدوم،
وبالتالي فإن كلا الطريقين جائز الاتباع في مثل هذه الدعوى، ولا يمنع شرط قيام أحدهما من سلوك الآخر حتى لو تشابه السببان،
وبحسبان أن كلاهما يقعان على أحكام لا تقبل أي طريق من طرق الطعن العادية، غير أنه يمكن سلوك طريق الانعدام، سواء كان القرار قد اكتسب الدرجة القطعية أم لا، لأن القرار المعدوم يمكن الدفع بعدم وجوده في أي وقت من الأوقات))
وتطرقت محكمة النقض لاجتهاد الهيئة العامة رقم 504/ 2010 القائل بأن الغش بالتبليغ حالة من حالات إعادة المحاكمة، وقابلته باجتهاد آخر للهيئة العامة برقم 656/ 1995 يقول بأن الغش بالتبليغ يعدُّ سبباً للانعدام، وأفادت بأنه لا يوجد تعارض بين الاجتهادين، وتوحيداً للرأي القانوني في هذه الناحية، فإن المحكمة وبأحد أروع تجلياتها الاجتهادية ترى:
((إن اعتبار الغش في التبليغ سبباً من أسباب الانعدام هو أقرب لإرادة المشرع ومقاصده، من اعتباره منضوياً ضمن الغش المسبب لإعادة المحاكمة، لأن الغش الذي قصده المشرع واعتبره من أسباب إعادة المحاكمة ومن شأنه التأثير في الحكم، هو الغش المتمثل بعمل إيجابي يقع من الخصم، وليس السكوت والكتمان وإخفاء الحقيقة،
حيث أن الفقه والاجتهاد اشترطا لحصول الغش المبرر لإعادة المحاكمة ثلاثة شروط:
1- استعمال إحدى الطرق الاحتيالية لتغيير الحقيقة وتضليل المحكمة.
2- أن يجهل الخصم هذا التضليل أثناء المحاكمة.
3- أن يؤثر الغش على قناعة المحكمة.
وعليه فإن الغش المقصود في أسباب إعادة المحاكمة هو الذي يحصل أثناء المرافعة، بحضور الخصم، أي يتعلق بالأدلة والدفوع والأوراق المبرزة، وتأثرت المحكمة بتلك الوقائع المكذوبة فببنت حكمها عليها))
((إن أي غش يقع خارج جلسات المحاكمة والمرافعة، ومنها إجراءات قيد الدعوى ومذكرات التبليغ الصادرة قبل الشروع بالمحاكمة لا يمكن اعتبارها تنطبق على أسباب إعادة المحاكمة،
وآية ذلك أن الغش بالتبليغ أو العنوان الوهمي لا تأثير له مطلقاً في قناعة المحكمة ولا تأثير له على النتيجة التي توصلت إليها، وهو غش بالإجراءات بشكل يجعلها غير ذات أثر ومعدومة، والانعدام ينسحب على القرار الصادر تبعاً لها، فيغدو معدوماً أيضاً))
هذا ولم تنس محكمة النقض أن تستهل قرارها بمبدأ مستقر في الانعدام إذا لم تنعقد الخصومة حيث قالت:
((حتى تنعقد الخصومة يتعين أن تعلن صحيفتها للمدعى عليه.....
وحتى يصار اتخاذ قرار حاسم في الدعوى لابد من تبليغ الأطراف موعد الحضور بشكل تنعقد معه الخصومة صحيحة وبإجراءات صحيحة تتفق مع ما أوجبه المشرع في قانون الأصول، وبالتالي فإن صدور أي قرار قبل انعقاد الخصومة يبقيه معدوماً،
وإن غاية المشرع من تقرير هذا الانعدام يعود لحقيقة أن الأصل في القضاء أن يكون في مواجهة الخصم، بحيث يقول المدعي ما شاء ويتمكن خصمه من الرد بما يراه، فإذا تحقق هذا الأصل فإنه الغاية المقصودة من توخي الدقة في إجراءات التبليغ))
وفي نهاية اجتهادها كرست محكمة النقض مبدأً هاماً للغاية يقضي بوجوب تصدي المحكمة التي تقرر الانعدام لموضوع الدعوى الأساسية، وأن تبت فيه أيضاً، لا أن تكتفي بتقرير الانعدام فقط، فقالت:
((إن الحكم المعدوم لا يرفع يد المحكمة عن الدعوى، وإنما تعتبر الدعوى لا تزال قائمة حتى إذا قررت الانعدام فصلت في موضوع النزاع،
فالمحكمة بإصدارها حكماً معدوماً لا تستنفذ ولايتها بالنسبة للنزاع، ولا يجوز أن تنتهي مهمتها بأمر معدوم، لهذا السبب كان وجوب تقديم دعوى الانعدام للمحكمة التي أصدرت الحكم المعدوم بطلب سحبه وإعادة النظر في النزاع))
((على المحكمة الناظرة بدعوى الانعدام، أن تعيد النظر في النزاع وبحث أدلة الطرفين وتمكينهم من إثبات دفوعهم، ثم تصدر قرارها بموضوع النزاع))
حكم جميل فعلاً غنيّ بالفكر القانوني في تأصيل الانعدام.